في حوارية طمي مع ربيع زريقات -وفي البال زميلته وشريكته الصديقة لمى الخطيب- أخذَنا في رحلة لتطوّر مشروعهم ووعيهم، ليصبح مشروعاً وجودياً بكل ما في الكلمة من معنى ومبنى… مشروعاً يواجهون فيه الهيمنة الغربية-الشمالية (المُستعمِر) وأدواتها الاقتصادية والثقافية والفكرية التي تمارسها على أهل الجنوب ونحن منهم، كامتداد لاستعمارها المباشر، وكسر هذا الاتباع الأعمى لكل ما هو غربيّ، والهيمنة تتطلّب الموافقة عليها وإعطاءها المشروعية للاستحواذ والاستمرار، ويؤكد ربيع زريقات على أهمية التحرّر من التمويل الأجنبي الذي يحدّد الأجندة والأولويات ويعزز العجز فينا والهيبة من البديل، وضرورة الانتباه للتمويل المحلّي والذاتي، والبدء منه لنكون نِدّاً.
يأخذنا ربيع عبر رحلته الشخصية من شاب أدرك الاختلاف والتنوع وقيمته، وعودته باحثاً عن الأردن الذي عاشه، والبدء بالسؤال وضرورته وما هو تقليدي وأهميته منتقداً محاولات التسابق نحو الإبداع دون الانغماس بما هو أصيل وثابت. يروي رحلته للقرية الأردنية ومنها ومعرفتها وحكمتها وسيرورة بقائها الممتدة لآلاف السنين شاهداً على البقاء لا يحتاج التأويل، تعلم معهم ومنهم وأدرك حكمة وأصالة التعلم الشعبي المتجذّرة فينا، وأهمية المعرفة الاجتماعية والشعبية التي تهدف لتحسين الحياة المشتركة للناس.
يعترف ربيع بقيامه بمراجعة ذاتية أخرجته من “ذهنية المستشرق” وصدى صوته ونظرته المعيارية الذاتية والمزيفة، و”عقلية المُنقِذ والضحية“، ومراجعته لكلمات قد تبدو بديهية لكنها “خائنة” لجوهرها مثل “التواضع”، ومدلولاتها الخفية ووضعها للحاجز بين الأنا والآخر، و”الإبداع” ومدلولاتها بالخروج من الأصل والبدء مما هو تقليدي كما النبتة تنمو في بيئتها، رافضاً حرق المراحل، و” الفقر” وتعريفة الغربي ومدلولاته الاستهلاكية الغربية وأهمية نقده وسلمه المعياري ويتساءل ناقداً “من الفقير”؟!. لتصل رحلته للإنصات للصوت الداخلي لمجتمعنا، وإدراكه أن عملية المعرفة الشعبية هي عملية تبادلية عضوية تكاملية ممتدة لآلاف السنين لا يوجد فيها “نحن، وهمّ”.
يؤمن مشروع “قمح البركة” بدعاء الفلاح الأردني وفلسفته والمبنية على التوكّل والإيمان المفتوح على الكون ورب الكون الحي الرازق سبحانه، الذي لا ينسى الطير والضيف وعابر السبيل من بركة السماء وما تنتجه الأرض، المنفتح والمتفاعل والمتقبل لتغيرات الطقس والانسجام مع البيئة فإن أمحلت صبر، وإن جادت شكر، وخبّأ بعضاً من رزقه لموسم قد يكون أقسى. أدعو الجميع لسماع هذا الدعاء بصوت ربيع في الحوارية.
يقدّم مشروع “قمح البركة” نموذجه التنموي الشعبي القائم على أساس أن السيادة على الغذاء هي المنطلق نحو اكتشاف الذات، وبلورة مفهوم وجوديّ تشاركيّ في معنى “النعمة”، ومُعلم يتكامل فيه الاجتماعي مع الاقتصادي والثقافي مع الروحي.
وزاد يقينهم جميعاً مع “جائحة كورونا” وتعثّر سلسلة توريد القمح عالمياً، والأردن يستورد 97 % من قمحه، واليقين الذي تجلّى بما حصل بعد طوفان الأقصى حيث ظهرت كلمة “الطحين والخبز” كثاني كلمة ظهوراً -بالنسبة له- في وسائل ومواقع التواصل الاجتماعي بعد كلمة “شهيد” كما يذكر ربيع.
يتجاوز مشروع “قمح البركة” الخارطة السياسية المؤسسة على سايكس بيكو، متبنياً مفهوم الخارطة الزراعية المتصلة مع فلسطين وزراعتها وتجربة أهلها، وتبادل المعرفة والتعلم الشعبي الممتد عبر الحدود المصنوعة، مشيرا لحالة العائلات الفلسطينية التي لجأت للكرك وكيف انها لم تسكن في “مخيمات” فلا غربية ولا شرقية، بل وجودية، وكيف اندمجت مع القرى في الجنوب وأهله، وأصبحت عائلات لها حضورها وفعاليتها، في دلالة لقوة و معنى الخارطة الزراعية متجاوزة الحدود السياسية المفروضة على الناس.
يعترف ربيع في عدم التوجه للدعم الحكومي -الغائب أصلاً- مشيراً لسياسات غير داعمة لزراعة القمح محلياً على حساب القمح المستورد، والبيروقراطية والبطء، وتفضيل الآني على الاستراتيجي، وتحملهم كمشروع لكلفة خدمات ضرورية لاستكمال المشروع وضمان نجاحه مثل فحص التربة وتوفر للمعلومات الضرورية لنجاح العملية الزراعية، والتي هي من صميم العمل الحكومي، متمنيا أن يتم حماية المزارع الأردني، وأن تكون الزراعة على أجندة القوائم الانتخابية إن كانت جادة في التغيير والتعبير عن هموم الناس وواقعهم.
ويمتد أثره وأثرهم فيؤسس “بيت الناي” رابطاً بين الثقافة والموسيقى الشعبية التي لا تعرف تفرقة بين كبير وصغير ومعيارية مصطنعة، فالكل فيها سواء، واعادة إحياء صوت الناي فينا، فربط بين قلة الاهتمام والعزوف عن إنتاج آلة الناي محلياً، فاتحاً البيت -بيت الناي- للأطفال والكبار معيداً ما غاب، فيه يتعلمون المعنى قبل العزف، والعملية قبل النتيجة.
هي رحلة وحوارية أدعو الجميع لسماعها بصوت ربيع ومشاعره وإصرارهم، وان نضع في البال صوت جميع من رافقهم رحلة التعلم والإنتاج وكسر حلقة الهيمنة وأدواتها.